أنشر المقال

قصر البديع - الجزء الأول

جرت عادة الملوك المغاربة أنه كلما انتصروا في معركة ما خلدوا انتصاراتهم بتشييد مبان معلمية تكون في مستوى ذلك الظَّفر كالذي قام به الموحدون مثل السلطان يعقوب المنصور - على سبيل الذكر - من بناء : منار الكتبية بمراكش وجامع حسان بالرباط وجامع خيرالدا بإشبيلية وغير ذلك عقب انتصاره في معركة الآراك الشهيرة، فعلى نحو هذا شرع السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي عقب انتصاره العظيم على الجيش البرتغالي في وادي المخازن حيث مصرع الملك سيباستيان سنة 986ه / 1578م في بناء قصر البديع العظيم شرقي القصبة الموحدية. وقد كان يسهر بنفسه على تصميم القصر مع المهندس المعماري آنذاك مستوحيا من القصور الأندلسية الشكل المعماري الفريد

وبالإضافة إلى المعنى الجميل الذي يدل عليه اسم القصر《البديع》فإنه يلمح للاسم الذي كانت تحمله قباب قصر قرطبة بالأندلس

وقد دامت مدة بنائه 16 عاما بمعنى أن الأشغال الكبرى انتهت سنة 1002ه واستمرت بعض الأشغال التكميلية سنين أخرى إلى ما قبيل وفاة السلطان في حدود سنة 1012ه حسبما تفيده رسالة صادرة عنه من فاس يوصي فيها بتركيب سواري الرخام عند تسقيف بعض الجهات

هذا بالرغم من أن الأشغال لم تتوقف صباح مساء، بالإضافة إلى العدد الكبير من العمال الواردين من كل حدب وصوب، من المغرب الكبير وأوروبا الذين تم حشدهم في هذا المشروع. بالإضافة إلى المواد التي استروردت من الغرب والشرق : من تنبكتو إلى أوروبا والهند والبرازيل، فلك - أخي القارئ - أن تتصور السوق الصاخب بمراكش الذي كان يُعقد لتغطية الحاجيات على كل المستويات

كان القصر غاية في الجمال والرُّواء، ولقد اجتمع فيه من الحسن ما تفرق في غيره من القصور. كما امتاز بروائع النجارة والهندسة المعمارية، وتُفُنّن في بنائه تَفنُّنا فوق الوصف حتى صار محط أنظار العالم كله. والذي دفع السلطان إلى هذا الصنيع وقد أنفق فيه جلائل الأموال ونفائس الذخائر هو تخليد ذكر آل البيت وأن تكون لهم به مأثرة وشفوف على دول البرابرة وغيرهم من المرابطين والموحدين وبني مرين إذ كل هؤلاء ابنتى بناء يحيى به ذكره وليس لآل البيت في ذلك شيء تزداد به حظوتهم وهم أحق الناس بهذا السؤدد والمجد فانبرى لبنائه بقصد تشريفهم

ذكر المؤرخ الوزير عبد العزيز الفشتالي في كتابه المناهل الواقع في عدة مجلدات كما نقله المقري في نفح الطيب ومحمد الصغير الإفراني في نزهته حول قصر البديع بمراكش : [أن السلطان المنصور السعدي أخمل ( أي أخفى) به ذكرَ ما صنعه بنو العباس في بغداد وبنو مروان في دمشق وبنو عبيد في القاهرة .. ] وقد خشي الفشتالي - مع ذلك - أن لا يوفي وصفه بحق فاعتذر للذين يقفون بعده على هذا الأثر الجليل فيجدونه أجل وأعظم وأفخر وأبهر وأخطر وأرحب وأوسع وأرفع مما قرأوا على حد تعبير المؤلف

اجتمعت كلمة زوار القصر من الديبلوماسيين والرسامين والناس أجمعين واتفقت الروايات كذاك على أن البديع كان جنة على أرض مراكش وتحفة العصر وعنوان العظمة

لقد كانت فرحة المنصور السعدي بالغة بإنهاء أعمال البناء، الأمر الذي تترجم عنه الحفلات الكبرى المتوالية التي أقامها لمختلف طبقات الشعب، و كذلك المبالغ الضخمة و الهدايا الفاخرة التي نثرها على العمال و الزوار و المدعوّين

ولقد ظل البديع منذ نهاية البناء المركزَ الأول في الدولة لتنظيم البعثات الدبلوماسية التي ردّدت صدى القصر في مختلف دول أوربا وآسيا .. كما كانت محفلا يلتقي فيه أعيان الدولة بمناسبة الأيام الإسلامية وبخاصة ليالي رمضان وأعياد المولد النبوي وخاصة أيضا بعد النصر الذي حققه المنصور على إمبراطورية شنغاي

ومن هنا انطلقت ألسنة الشعراء متبارية في تقديم أجود الشعر الذي يحظى بالنقش على أبرز الجوانب وأهم القاعات فانبرى لهذا فحول الشعراء وكبار الأدباء لنيل هذا الشرف، وكان مما أنشده في هذا البديع المنصور السعدي نفسه 

بستان حسنك أينعت زهراته ☆☆ و لكم نهيت القلب عنها فما انتهى

و قوام غصنك بالمسرة ينثني ☆☆ يا حسنةً رمانةً للمشتهي

وكان مما قيل في البديع أيضا

كل قصر بعد البديع يُذم ☆☆ فيه طاب الجنا و فيه يشم

منظر رائق و ماء نمير ☆☆ و ثرى عاطر و قصر أشم

إن مراكش به قد تناهت ☆☆ مفخرا فهي للعلا الدهر تسمو

وبعد اكتمال البناء أصبحت مباني قصر البديع معالمَ بارزةً في العاصمة، يراها الواحد من مكان بعيد، يعلو بهاؤها ويتلألأ نورها. وإليك قول الكاتب النِّحرير محمد بن عبد الواحد الحسني وقد تراءت إليه من باب أغمات حيث ضريح العلامة ابن البنا فقال

أنظر إلى قبب البديع عشية ☆☆ فبحسنها تتمتع الأبصار

فكأنها قد شيدت من زبرجد ☆☆ وكأنما شمس الأصيل نظار

ومما نقش على أحد أبواب القصر ما قاله الأديب علي بن منصور الشياظمي 

الحسن لفظ وهذا القصر معناه ☆☆ يا ما أميلح مرآه وأسناه

فهو البديع التي راقت بدائعه ☆☆ وطابق اسم له فيه مسماه

صرح أقيمت على التقوى قوائمه ☆☆ ودل منه على التاريخ معناه

ولاح أيضا وعين الحفظ تكلأه ☆☆ تاريخه من تَمام : قل هو الله

وقيل غير ذلك كثير مما هو مذكور في كتاب النفح الطيب للمقري ومناهل الصفا للفشتالي والنزهة للإفراني

(يأتي في المراكشيات القادمة وصف القصر من الداخل والتغيرات التي طرأت عليه بسبب الحروب وتعاقب السلاطين بعده وما آل إليه في نهاية المطاف) 

يتبع 

مضامين هذا المقال مأخوذ بتصرف من كتاب "قصر البديع بمراكش من عجائب الدنيا" لعبد الهادي التازي

 

التعليقات

piufn5

7ea6f8

أترك تعليقا









أنشر المقال

إذا لديك سؤال، استفسار أو مشاركة فأرسل لنا رسالة