أنشر المقال

قصر البديع - الجزء الثالث

بعد وفاة المنصور السعدي سنة 1603م، اختلفت كلمة بَنيه من أجل الاستيلاء على العاصمة المراكشية، فنتج عن ذلك صدام خلف خرابا لحق قصر البديع الذي كان يمثل مركز الحكم فيها. فقد نشبت حرب بين السلطان أبي فارس (ابن أحمد المنصور السعدي) المُبايَع بمراكش سنة 1012ه وبين أخيه الأمير زيدان وفرار هذا الأخير لتلمسان، كما نشبت حرب بين عبد الله بن الشيخ المأمون الذي نهض لقتال عمه أبي فارس فاستولى على العاصمة سنة 1015ه مبيحا للجيش النهب والعبث ولكم أن تتصورا أثر هذه الأحداث على القصر

وبعد ذلك عاد الأمير زيدان للعاصمة المراكشية أواخر سنة 1015ه فاقتحمها بعد حروب مضينة دامت سنة فلما ظفر بها واتلئب له الأمر بدأ الأمير بترميم القصر من جديد فاجتلب العود من البرازيل فلم يلبث حتى نشبت ثورة الفقيه السجلماسي ابن أبي مَحَلّي سنة 1019ه / 1611م الذي انتزع مراكش من الأمير زيدان لكنه استعادها من جديد بعد ثلاث سنوات من حروب مهولة كانت سبب خراب مراكش وقد زاد في محنتها تلك السلسلة من المجاعات الضاربة والأوبئة الفتاكة التي كان لها الأثر البالغ على البلدة وأهلها وآثارها وتُحفها

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد في محنة القصر البديع وتسبب في مزيد خرابه ما فعله الوليد ابن الأمير زيدان لما خلف أباه ولم يكن في مستوى والده سلوكا وشهامة فأجهز عليه الجنود سنة 1045ه / 1636م بسبب سلوكاته وتصرفاته فكانت نكبة للقصر

وهكذا نشاهد أن ذلك القصر الذي كان يترقب أعواما حيث سهر على صيانته السلطان وبذل فيه الغالي والنفيس واعتنى به اعتناء فائقا، أمسى عرضة للقذائف والخراب والنهب والإهمال

وقد تأزم الوضع أكثر بعد سقوط الدولة السعدية إثر قتل آخر سلاطينها سنة 1659م، حيث تولى العلويون الفيلاليون الحكم على المغرب على يد السلطان مولاي الشريف وبهذا انتقل سرير الملك من العاصمة المراكشية إلى فاس فمكناس ثم فاس واستقر هناك إلى أوائل القرن 20 فانتهى به الأمر في الرباط

هذه التغيرات كان لها تأثير واضح على المدينة ومعالمها، فطالها الإهمال ولم تكتف بهذا بل عرفت اصطدامات أخرى إثر مبايعة المولى إسماعيل فنافسه ابن أخيه الأمير أحمد بن محرز وانبرى له يريد الاستيلاء على مراكش أواخر سنة 1082ه/1672م فسجل لنا التاريخ عن اشتباكات مسلحة عنيفة كان معظمها يقع وسط القصر فأضحت رياضه وجنباته ساحات قتال تحولت مصاريع قبابها إلى مجنات وتروس، وغرفها إلى ثكنات وأروقتها إلى خنادق ورياضها إلى مقابر وصهاريجها إلى مستنقعات للبعوض والناموس

ومع هذا كله لم تنته مطامع المتربصين والطامعين فلقد استهدفت مراكش من طرف الأتراك آنذاك وغيرهم حيث قضت على ما بقي من معالم هذه المدينة وخاصة قصر البديع الذي عاد أطلالا متداعية وهيكلا نخرا عملت فيه يد النهب وعبثت به معاول الإهمام والسطو الذي لا يرحم، فاختلت دورات السقي وتعطلت جل الأنابيب، فيبست الحياض وذبلت الرياض، وساءت الصيانة وانتهت العناية، وأضحى مكانا موبوءا لا يمر بها أحد إلا أصابته الحمى وأنواع الأمراض، حتى أمسى المولى إسماعيل يسميها بدار أُمِّ مِلْدَمِ (أي الحمى)، فخاف السكان على أنفسهم وذويهم

وتبعا لذلك، قرر السلطان هدم ما بقي قائما من قصر البديع لأنه رأى أنه الطريق إلى قطع أطماع الناس ذوي النفوذ للاستيلاء على مراكش وقصرها فبهدمه تنتهي أطماعهم وقد استمرت العملية ما يربو عن العشر سنوات، فزالت كل محاسنه وتحول إلى خراب مهجور ترعى به الدواب، ومـأوى للكلاب وملجأ للبوم. ومن العجيب ما يروى أنه لم تبق بلد بالمغرب إلا ودخلها شيء من أنقاض البديع

وأختم هذه المراكشية بذكر حديث للسلطان المولى إسماعيل يفيض حسرة وأسى على ما تعرض له قصر البديع من تلف في أعقاب هذه الحروب، قاله لأحد سفراء البرتغال الذي التمس منه أن يقف على القصور الملكية نظرا للصيت الذي كان لها فكان جوابه 

سنرضي طلبك ولو أنك لن تجد في هذا القصر ما كنت تسمعه عنه، سترى كثيرا من الدمار لأن رصاص المعارك المحتدمة كان يلعلع في هذه الساحة، ولأجل ذلك فإنك ستشعر بالخيبة وأنت ترى أثر التشتت والتمزق

فلا حول ولا قوة إلا بالله

ولله الأمر من قبل ومن بعد

وقد اعتمدت بالأساس على الكتاب الموسوم ب : "القصر البديع بمراكش من عجائب الدنيا" للدكتور المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي رحمه الله الذي أرخ فيه لهذه المعلمة التاريخية البديعة

التعليقات

1pc9ye

7cdrz8

أترك تعليقا









أنشر المقال

إذا لديك سؤال، استفسار أو مشاركة فأرسل لنا رسالة